الشعر العربي ( بعيداً عن الركاكة والضعف )

بسم الله الرحمن الرحيم
الشعر هو كلام موزون مقفى , هكذا يصبح الكلام شعراً ثم ليصبح بعدها شعراً ركيكاً او ضعيقاً أو تعتوره من العلل والعيوب ما يزكم أنف قارئه , المهم انه شعر ما دام موزوناً ومقفى ( وسنتناول هذين العلمين الجليلين بشيء من الإيجاز إذ قد ألفت فيهما المؤلفات , حتى لا يمل القارئ ) :-
1) الوزن أو علم العروض :- هو علم واضعه الخليل بن أحمد , ولا يفهم من هذا ان الشعر كان قبل الخليل متروكاً لهوى الشاعر , حاشا وكلا , ولكن الشعراء قبل الخليل كان لهم من سلامة فطرتهم وحسن سليقتهم ما يمنعهم من الوقوع في أخطاء في الوزن ( ومن الناس من يستهين بوزن الأبيات ويحسب نفسه من شعراء الجاهلية , بالرغم من أن المتنبي نفسه أخطأ في وزن أحد الأبيات , واستعصى على أبي نواس وزن بيت آخر , وإنما الجاهل من إذا علم قال أعلم وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ) أقول لما جاء الشعراء المولدون وكثرت أخطاؤهم في هذا الباب , وجد الخليل الضرورة ملحة لوضع بحور وقواعد يعرف بواسطتها الشاعر هل ما قاله موافق لأوزان العرب وبحورها ام لا , فوضع خمسة عشر بحراً وزاد تلميذ تلميذه الأخفش الأوسط البحر السادس عشر , والتزم جميع الشعراء بعدها بهذه الأوزان , وكان الذي لا يعرف كيف يزن البيت وزناً صحيحاً لا يسمى شاعراً ولا يحترف مهنة الأدب , فلما جاء الجيل الذي بعدهم وحاول أن يفهم هذه البحور ويتعلمها واستعصى عليه ذلك إما لضعف في لغته او لعدم صبره على التعلم , قرر رجالات هذا الجيل أن يتحرروا من هذه الأوزان ( ولم نر أحداً تحرر منها وهو قادر على الالتزام بها إلا القليل النادر , أما أغلب من انتهجوا هذا المنهج الجديد فلضعفهم وعجزهم عن الإتيان بما اتت به الأوائل ) فصنعوا ما يعرف بالشعر الحر , ووضعوا له أوزاناً أيضاً ولكنها سهلة لا تتعب من يريد الالتزام بها , ونتج عن ذلك أن خرجت علينا طائفة ممن لا علم لهم حتى بقواعد اللغة والصرف والنحو وكيفية رسم الكلمات إملائيا بله العلوم الجليلة كالبيان والعروض والقافية , أقول خرج علينا اناس هذه قدرتهم وهذا علمهم زاعمين أنهم أشعر الإنس والجن , وانه لو اجتمع وادي عبقر على قلب رجل واحد فنظم قصيدة لقصرت عما ينظمه هو , ذلك وهو ربما اتى بالغلط الفاحش المسترذل في النحو والصرف بله سلامة شعره من الأغلاط . وهو لا يعرف شيئاً بالطبع عن انواع الزحاف والعلل بل ربما لا يعرف الأسباب والأوتاد وصدر البيت وعجزه والبيت المدور والبيت المصرع إلى آخر هذه الدقائق التي ينبغي على قارئ الشعر بله كاتبه ان يتعلمها , فانحط قدر الشعر وسبق كل جاهل من هؤلاء اسمه بلقب الشاعر والشعر منه براء إلى يوم يبعثون .

2) القافية :- وواضعه الخليل بن أحمد أيضاً وهو أسهل من علم العروض وإن كان هذا لا ينفي احتياج دارسه إلى وقت وحضور ذهن حتى يلم به , وهذا أيضاً قد خرج عليه شعراء الجيل الجديد , فهم لا يعرفون الردف ولا التأسيس ولا الخروج ولا الصلة , ولا يتعبون أنفسهم بدراسة عيوب القافية وعرفة ما يجوز للشاعر إتيانه وما يجوز للجاهلي دون المولد , وغير ذلك مما دون في الكتب ورفعت شأنه العلماء , وأحدهم إذا قدر له ونظم قصيدة مقفاة عمد إلى قافيتها فبدد شملها وأحل حروفها دار البوار , وإن كلمته في ذلك تعلل بأن كل أحد يجيد هذا الفن وأنه لا يحتاج لتكبد المشقة في تعلمه , بالرغم من أن كبار الشعراء من وزن طرفة والنابغة والعجاج قد أدركتهم أخطاء في هذا , فمنهم من تداركها ومنهم من اعتذر له أتباعه بمخرج ومنهم من بقي خطؤه حتى اليوم , ولكن أخانا هذا يرى نفسه فوق مستوى هؤلاء الشعراء الصغار بالنسبة له , وما هو شعر طرفة او النابغة إذا قيس لشعره ؟! , وما هو رجز العجاج إذا قيس لرجزه ؟!

أقول بعد هذا الملخص الصغير الذي ينبيك عن صعوبة تحول الإنسان لشاعر , أنه ليس كل من أحب الشعر ـ ولم يعرف قواعده ـ يكون شاعراً , والشعر ليس مذللاً لكل طالب , والذي ذكرناه يجعل ما يقوله الإنسان يسمى شعراً , ولكن حتى هذا الشعر يحتاج إلى عاطفة وخيال وطول دربة ورواية للشعراء الأقدمين وقدرة على استخلاص المعاني والإتيان بالمعاني الشريفة الرائعة وفهم أبيات المعاني , أقول يحتاج كل هذا حتى يصبح شعراً مقروءاً لا شعراً مهملاً ملقى على أرفف المكتبات فأرفف النسيان إن قرئ , وهذه الفنون لا تتأتى بالنوم والتمني وكثرة الأغلاط في النحو والصرف وعدم معرفة شيء في من فنون البيان و ترقيع كل ذلك بالخيال ... بالكثير منه مما يعجب من تغلب عليهم العاطفة من النساء والصبيان , حتى إذا أطرى عليه هؤلاء حسب أنه بلغ مرتبة لا يرقى إليها أحد وأحسب أنه أعجز الناس نده , فإذا نبهه منبه إلى غلطه وسوء فهمه وأن فن الشعر ليس يدرك بمدح الصبيان والنساء , أعرض ونأى بجانبه وأخذته العزة بالإثم , وقال ( وما الذي تنقمه مني , وأنا رجل أهتم بالخيالات والمعاني غير المحسوسة ,وقد تركت المادية لك ولأمثالك من الشعراء الجاهليين الذين لا هم لهم سوى اللهو بالنساء ثم الذهاب في رحلات الصيد ثم معركة هنا او هناك , وأنا لا أطلب ما يطلبه عديمو الإحساس هؤلاء وإنما أملك روحاً شفافة تطلب ما وراء حدود المعقول والمحسوس وتحلق في عالم من الخيال حيث الجمال هو السائد والقبح منفي مبعد وحيث لا يرفع أحد صوته فالحزين ذو حزن مرهف والسعيد ذو غبطة هادئة والعاشق ذو اهتمام بالروح لابالجسد ..... ) إلى آخر هذا الهراء , قلنا قد أسأت وهممت بما لن تنال , ووجه إساءتك كامن في شيئين أساسيين :-

أولها : أنك توهمت انك أخذت في هذا النوع من الشعر لأنك راغب فيه , والحقيقة أنك أخذت فيه لأنك عاجز عن غيره , وإن كنت في شك من هذا فالتمس قصيدة على نهج ما أتاه كبار شعراء العرب ثم اكتب مثلها , أي ابداها بالغزل ثم خض فيما انشاتها لأجله من مدح او رثاء أو غير ذلك , ستجد أنك عاجز عن نظم مثل هذه القصيدة ولن تستطيع أن تمدح لأن المدح يتطلب حصر صفات الممدوح ووضعها في قالب لغوي وإضافة فنون البديع إلى ذلك حتى لا يسمج في عبن الممدوح والقارئ معاً , وأنت لا قبل لك بهذا ولا قدرة , وقس على المديح غيره , وإنما تهوم في سماء الخيالات لأن هذه لا تتطلب شيئاً فأنت كلما استعصى عليك معنى وضعت من ألفاظ نحو ( آه لقلبي المعذب , وواها لجمالك الزائل , و قلبي ضاق على ما فيه من حبك فطارا , .... ) إلخ هذه الكلمات التي يجيدها كل احد , وتعتقد أنك أتيت هذا النوع وانت قادر على غيره وانما رغبت فيه دون سواه , وقد بينا أن هذا زيف ومين وكذب .

ثانيها : أن الشاعر بشر من لحم ودم يمدح إذا رأى من يستحق المدح , ويهجو متى رأى من يستحق الهجا , وقد يموت له عزيز أو يرزى في جلل فيضطر إلى الرثاء , وقد يركبه المرح فيرغب في الصيد أو مواطن يأنس فيها فيقصف أو يهزل او يمجن , وهو في كل هذا يحكي ما يراه وينقل ما يشعر به , اما هؤلاء الهائمين الشاردين فما الذي يفعلونه ؟ لا شيء إلا الشرود وكلام لا معنى له ربما أثار شجناً في النفس إذا بلغ مداه ثم ماذا ؟ لا شيء يذهب طيشاً طكما جاء طيشاً .


وقد أطلنا ما لن يستنى معه لقارئ ان يتم معه الكلام من بدايته إلى نهايته , ولكن وجه اعتذارنا في ذلك , حرصنا على لغة اختارها الله لتكون لغة القرآن الذي خصه اللله بإعجازه من حيث لغته , وتحدى الخلق إنسهم وجنهم ان يأتوا بمثله في فصاحته , وأقول يسوؤنا أن نرى هذه اللغة العظيمة تهراق كرامتها ويتعرض لأحد أكبر فنونها وهو الشعر أناس يخطئون في قراء نص او كتابته من غير أربعة او خمسة أخطاء نحوية وصرفية وإملائية , فعسى الله ان يمنن علينا وأن يقيض لهذه اللغة الأدباء الذين يسكتون أمثال هؤلاء من أدعياء اللغة ويوقفونهم عند حدهم , لتعود العربية كما كانت من غير لفظ تعتوره الركاكة والضعف وينسب إلى قائله انه شاعر .